اليوم الثاني - إنَّ العزلة أحيانًا تعلمنا أنَّ الأشياءَ التي
نراها كلَّ يوم هي الأقربُ إلينا من الآخرين"
هذا الصباح حاولتُ جاهدة اختلاق مشكلة مع كوب القهوة الذي أحب، فقد تولَّدت بيننا هذه العلاقة ذات يوم لا أذكر بالضبط متى؟ لكني أذكر تفاصيله جيدا، ففي ذلك اليوم وعندما شممت رائحة القهوة تركت وشمها عالقًا في صميم الذاكرة هي وهذا الكوب الفينيسيّ، لقد كان يومًا غريبًا ممزوجًا بالحب وبعض الحزن، الحبُّ الذي ما زال يمطرُ قلبي كلَّما تجرَّعتُ جرعات من هذه السمراء الذهبية، الحبُّ الذي يجعلني أوكلُ للصمت والحيرة أمر هذه المشاعر المختلطة لتلونهما ببعض الدهشة، أما الحزنُ فقد أقسمت لنفسي أنَّي لن أعودَ لتذكره ولن أفعل، لكنني وفي كلِّ مرة وبسبب هذه العلاقة الثنائية الوطيدة بيننا أتجرعه يوميًا.
آهٍ من هذا الحبِّ الذي يدمرنا ونستلذُ به بل ونتجه صوبه ونخوض معتركه غير مبالين بكلّ التحذيرات التي قالها المجربون لنا، هذا الحب الذي يدخل مملكة القلب بلا استئذان وحين يريد الخروج فإن الأبواب توصد وتغلق، الحب الذي حار فيه الفلاسفة ولم يصلوا معه لتفسير، هو كالمعادلات الكيميائية التي تحترق وتنصهر معا ثم النتائج تختلف وتتغير بحسب نجاح التجربة، إنه معادلة وجودية مرعبة.
حقًا أستغربُ من هذه الخلطة العجيبة التي تجمعُ الأشخاصَ والأشياء فيقعون في هذا المسمى حبًا، أتساءلُ: هل حياتنا فعلا تدور حول الحب الذي هو محرك الوجود كله ومحدث له؟! وهل لولاه ما صح طلب شيء؟! هل هو لذة ورغبة جامحة لا تنتهي، أم هو سعادة مطلقة أو كما قال "سقراط" فلسفة بائسة تنتهي بحياة تعيسة، لا أعرف، كل ما أعرفه عن هذا الحب أنه جدلٌ قائم بينك وبين نفسك بحيثُ يقيم معها علاقاتٍ متضاربة ومتباينة وشاسعة جدًا، ومعاركَ تحتاجُ لعدة وعتاد، وطيفًا قادرًا على التخفي في روح الذين نحبُّهمّ..
أعود لكوب قهوتي الذي أحب وأتعارك معه كل صباح، يا لهذه المعادلة المتضادة؟! إنها علاقة الحب للحب عندما ندرك أن الآخر يحبنا ونحبه فإننا نتعارك معه لإيماننا الحقيقي أنه لن يفعلها ويتركنا، رمقتُ الكوب مرة أخرى رمقة حب فقد نشأت بيني وبينه علاقة توثقت يوما بعد يوم، فهو الوحيد القادر على امتصاص غضبي حزني معاناتي بل وأحيانا تقبل مزاجيتي وبما أنّ كوبي هذا الذي اشتريته من جزيرة مورانو الفينيسية (جزيرة الزجاج) وأعجبتُ به منذ رأيته ولم أتراجع عن اقتنائه بالرغم من شكله الذي يشي بالكثير من الخوف، بحيث رسمت عليه بعض الرموز الغريبة والطلاسم إلا أنني لم أندم قط على اقتنائه، فقد كان كوبًا عجيبًا ومدهشًا.
كالعادة أعددت كوبًا من القهوة وارتشفت بعضا منه وأنا أسمع "فيروز" وهي تغني (آخر أيام الصيفية) متأملة هذه الرموز والرسومات العشوائية، أفكر بصوت مسموع عن معناها وكيف رسمت بهذه الأشكال المخيفة، كنت أحاول أن أفتعل أية مشكلة معه فهو الوحيد في هذه اللحظة يمكنه أن يصغي إليّ ويكسر رتابة الصمت الذي يملؤني، أطرحُ الأسئلة وأجيب عنها أبدأ الحديث في موضوع ثم أنهيه، أحاول أن أفكَّ بعض طلاسم هذه الرموز بصوت مسموع، أتساؤل: هل كنت محظوظة بهذا الكوب، نعم أنا محظوظة، لأنني أول من أرتشف منه، وبينما أنا كذلك إذا سمعت صوت قهقهة صادرة من كوبي، حدقت مليًا وإذ به يكسر هذا الحاجز الرتيب ويضحك على تساؤلاتي التي يراها كراقصة لا تجيد فن رقصة (البرغاماسكا) الشعبية، قائلا:
علمتنا أفواهكم أن نصمت ونفرغ ما بداخلنا في بطونكم، أن نقاسمكم هذا الضجر والملل وتلك الرغبات العارمة واللذة الطافحة التي تقبع بداخلكم، أن نستمع لأسئلتكم التي تبدو غبية وسخيفة أحيانًا وحزينة مملة أحاين أخر، أما أغانيكم فهي ضجرة تشبه أرواحكم، تتخذون منا متكأ لكل أحزانكم وترافقوننا فقط في لحظات هذيانكم وتخبئون ابتسامتكم وفرحكم عنا.
كلُّ تلك الأفواه التي مرّت علي كانت كفيلة بخروجي عن صمتي، كلُّ تلك الأسئلة الباهتة والترَّهات التي تبثونها أنفسكم عندما ترتشفون من هذا الكوب قهوتكم المفضلة التي تتفننون في اختيار أنواعها، بدت لي عادة اعتدتم عليها وتقليد سرتم عليه، كلكم تتخذون نفس المشاهد وتصيغون ذات الأسئلة وتعيشون نفس اللحظات.
تبًا لكم ولأفواهكم القذرة المليئة بالبغض والكره تلك التي تصدر منها روائح متعددة من الطبائع البشعة، والتي تنبعث منها رائحة التبغ المقيتة، لكنني قررت في إحدى المرات ألا أحكم على أحد من شكله فأنتم متعددو الأوجه والأشكال لا تنبئ أشكالكم عما بداخلكم منافقون كاذبون مدعون، أذكر مرة بأحد المقاهي القديمة حيث كنت من مقتنياتها أن دخل رجلٌ بدأت على ملامحه الحزن ومما زاد هذا الحزن تلك التجاعيد الخفيفة تحت جفنيه ولون وجهه الشاحب المائل للأصفر كان يبدو متسخًا ولكنه ليس كذلك، وقد تخلف هذا الانطباع المسبق بالاحتقار، لذا كنت متخوفًا من أن يكون هذا الرجل الحزين القابع في آخر ركن في المقهى من نصيبي، وكان كذلك، لكنه لم يكن كالآخرين كان رجلا مختلفًا يحمل بداخله المعنى الحقيقي للرجولة حكى لي قصته التي جعلته يرتدي هذا الزي كان ممثلا يؤدي أحد الأدوار في أحد المسارح القريبة من المقهى، ومع هذا كان رجلا مسليًا لأبعد الحدود سكب بداخلي فرحه المكتظ وشغفه بالحياة، عندها تعلمت أن القيمة الحقيقة للآخرين تكمن برؤية دواخلهم واكتشاف مكنونهم، وليس من خلال أشكالهم وملامحهم. ومنذ تلك اللحظة لم أعر اهتمامًا لأشكال الآخرين، بدأت أركز فقط على كوامنهم وما يخفونه في صدورهم.
كنت أقوم بتأدية دوري بإتقان وحرص شديدين كما علمني هذا الممثل البارع.. أؤدي دوري مع التافهين الذين امتلأت عقولهم بالفراغ ..
مع المتسكعين الذين لا مأوى يأوي أرواحهم قبل أجسادهم...
مع الراكضين إلى مقرات أعمالهم وهم مجبورون على هذا العمل أو ذاك..
مع المراهقات الفارغات إلا من الزينة..
مع العشاق الذين غادروا إلى أرواح من عشقوا..
مع الحمقى الذين ملؤا هذا العالم غباء ..
مع المهرطقين الذين امتلأت عقولهم بالفوضى واللا شيء...
ومع المنحلين الساقطين في وحل الجرائم والسرقات والاغتصاب..
بل حتى مع المجانين الذين يعيشون مع هذيانهم وفصامهم العقلي..
مع كل هؤلاء جميعًا أستطيع أن أتقمص الأدوار وأجيدها مثلكم تمامًا أستطيع أن ألبس الأقنعة المناسبة التي تناسبكم، فمعكم ببساطة استطعت وبكل براعة إجادة كل دور..
فأنتم الوحيدون القادرون على لعب كل هذه الأدوار في وقت واحد، والتلون ولبس الأقنعة، وقد أتقنت لعبتكم..!!